من رحلات الأفوكاتو ...فى باريس.
( هذه الرحلة لا تحتاج لصور مصاحبة للسرد)
منذ 20 عاما, قررنا القيام بجولة فى أوروبا, و عبرنا المانش على متن العبارة الهيدروفيلية العجيبة, من " دوفر" إلى " كاليه".
أكملنا رحلتنا عبر فرنسا, الى إسبانيا, ثم رجعنا الى فرنسا, ثم إيطاليا, ثم سويسرا, ثم النمسا, ثم المانيا, ثم هولندا, ثم بلجيك ثم فرنسا مرة أخرى ,
( أى أننا دخلنا فرنسا ثلاث مرات), ثم عبرنا المانش مرة أخرى من "كاليه" الى "دوفر ".
فى فرنسا, شاهدنا المتناقضات, : الحديث جدا, و القديم جدا. الأنيق جدا, و المبهدل جدا. الجميل جدا, و القبيح جدا. الذوق جدا, و منتهى قلة الأدب.
يمتاز الشخص الفرنسى العادى بشئ أحسده عليه , وهو حبه الشديد للغته, فإذا خاطبته بالإنجليزية, إستعبط, أو رد عليك بالفرنسية, و لكن, إذا حاولت أن تسعمل لغته, مهما كانت ركيكة, فبسرعة يفتح لك قلبه, و يحاول أن يتقارب معك, شوية إنجليزى, و شوية فرنساوى.
و الطعام فى فرنسا قد يكون رخيصا تماما إذا عرفت تكيف تتسوق, و يكون غاليا جدا إذا حاولت أن " تتمظهر" أ و " تتمنظر".
و فى باريس, عشت اليوم الأول على أكل " العيش الفينو", رغم أن أكلنا كان مدفوعا فى اللوكاندة, و لكن طعم الخبز الباريسى جعلنى أنزل فيه أكل , و لم يبق مكان فى المعدة للطعام الفاخر.
غلطنا غلطة فى يوم من الأيام, و ذهبنا الى مطعم " مكسيم ", و المكان جميل, و الطعام جميل, و لكنه لا يملأ العين, ولا المعدة, و استغرق العشاء ساعتين كاملتين, بين كل صحن و صحن, نصف ساعة, و عندما جاءت الفاتورة الحراقة , ظننا أننا ندفع بالعداد, أى طبقا للوقت الذى قضيناه هناك.
و قررنا محاولة الأماكن الرخيصة, و تحدثنا فى ذلك مع صديقة لنا قابناها فى باريس, و كانت زميلة لى فى هيئة التدريس فى "لييدز",( إلى أن انتقلت لتعينها أستاذة علم التاريخ الطبيعى فى جامعة " كمبريدج ") و أسمها باتريشبا, و ندعوها " بات" للإختصار.
إقترحت " بات " علينا أن نتناول الطعام على الطريقة الشعبية, و حيث أنى لم أكن أعرف ما هى الطريقة الشعبية التى تعنيها, كما أنى لم أرد أن أبين جهلى, فقد وافقت متحمسا للفكرة.
مرت علينا بات فى حجرتنا, حيث أنها كانت تقيم فى نفس الفندق, و خرجنا معا, وسألتها, هل ننادى تاكسى؟ قالت, كلا... سنسير, فالمكان على بعد ميل أو ميل و نصف!!!! يا نهار أبيض!!!!
ووافقت زوجتى على ذلك, و سرنا, وسرنا, وفى الحقيقة, و رغم الكالو الذى نتج عن هذا السير, فقد كان هذا من أفضل الأشياء التى قمنا بها فى باريس, حيث يسمح لك السير ( البطئ) بالتمتع بالمناظر الجميلة, و الحدائق الغناء, و المحلات ذات الواجهات الرائعة,و الذوق الرفيع, و و الإحساس بالحياة الممتعة.
و أخيرا دخلنا شارعا جانبيا, و فى منتصفه, رأيت طابورا طويلا مثل طابور التموين ( أو المخبز البلدى ) فى مصر, و سألت زميلتى :....
ما هذا؟؟
فقالت لا شيئ,.... هذا هو نهاية الطابور.
فقلت طابور ماذا؟؟
فقالت طابور دخول المطعم.
و حتى لا أبين جهلى مرة أخرى, سكت.
سرنا مع الطابور, و دخلنا الى محطة قطار مهجورة. و تتبعنا الطابور, ووصلنا الى مبنى كان فى الماضى إستراحة لركاب القطار قبل أن تُغلق المحطة, و هنا لم أطق الصمت, و سألت بات: أين المطعم؟؟.... فردت:.... هذا هو المطعم!!
و سكت(ح ل أ ج) ( أى حتى لا أبين جهلى)
, و دخلنا الى المبنى, ووجدت أنه صالة كبيرة, مقسمة ألى ما يشبه القطوعات, و على الحائط المجاور للموائد, توجد الأرفف التى كان الركاب يضعون عليها حقائبهم سابقا, إنتظارا للقطار!!!!.
قابلنا جرسون, , يرتدى مريلة مخططة عرضيا بالأبيض و الأزرق, و تكاد أن تصل إلى حذائه,و أشار الينا أن نتبعه, و تبعناه. ثم توقف قرب مائدة يجلس عليها أربعة أشخاص, و لا يسمح حجمها بالمزيد, فالتفت الى " بات", و سألتها:
كيف سنجلس؟؟؟
فقالت:
لن نجلس الآن, سوف ننتظر هنا الى أن ينتهى هؤلاء القوم من إكمال طعامهم....... و سكت مرة أخرى......(ح ل أ ج).
فى هذه الأثناء, كنت أراقب الجارسونات و هم يحملون طاولات مثل طاولات المخبز, و عليها أعداد كبيرة من صحون الطعام الممتلئة . و لقد كان المكان مزدحما جدا, و لكن لم يكن هنا من يتململ, إلا أنا طبعا!!!
وكان الجرسون يتنقل بين الموائد كالبهلوان, رغم إمتلاء طاولته المحملة بالصحون.
و رغم شدة المرور, و زحام الإنتظار, و السفرجية, و الزبائن, فلم تحدث حادثة تصادم واحدة, ستر ربنا؟ أم فهلوة؟ لا أعلم.
بعد أن إنتهى القوم الجالسون إلتهام الطعام, أشاروا إلى الجرسون, الذى حضر, و نظر فى ورقة فى يده, ثم أخرج قلما, و مال على ظهر المفرش,(الذى إكتشفت أنه ورق أبيض), ثم كتب قائمة بالأكل المستهلك, و سعر كل طلب, ثم قام بعملية حسابية سريعة جدا, ثم كتب الحساب المطلوب على المفرش, و قام القوم بالدفع و على وجههم إبتسامة, فسرتها بأنها إبتسامة شبع, و تفاءلت.
ما قام به الجرسون بعد ذلك جعلنى أضحك , فقد لم المفرش الورق, و كوره, ثم القاه فى صندوق مهملات, و أخرج من مريلته ورقة مطوية, فرشها على المائدة, و اصبحت مفرشا, و قائمة طعام, و فاتورة , و ربما لو إحتفظت بها, لأصبحت إيصال رسمى أيضا.
ذكرنا للجرسون الطعام الذى نريده, وفى خلال خمس دقائق, كان هناك أربعة أفراد يقفون بجانب المائدة, ينتظرون إنتهائنا من أكل الطعام الذى لم يحضر بعد.
و أخيرا أتى الطعام:
كان الطعام جيدا, و رخيصا جدا , و بكميات معقولة جدا, و لكن ما نغص علىّ هو وجود هؤلاء المنتظرون, الذين ظلوا يرموننا بنظرات التشجيع , لكى ننهى الطعام, و نغور.
دفعنا الحساب, و أصررت على الرجوع بالتاكسى, و حلفت أن لا أذهب الى هناك مرة أخرى , ولكن .. بعد سنتين, كنت هناك مرة أخرى , و كنت هذه المرة مستعدا للمغامرة , و الضحك,و خاصة لأنى عملتها فى بعض الأصدقاء, كما عملتها معنا الصديقة اللدودة...... بات.
أرى بات مرة كل سنة تقريبا مع بقية الزملاء على المعاش, و فى كل مرة, نتذكر هذه المغامرة,وهات يا ضحك.
أراكم فى رحلة أخرى