14
طائرات بان أمريكان مريحة، إلا أنها تهبط في مطارين قبل أن نصل إلى بيوريا في إلينوي، أحدهما في دبلن في إيرلندا، والثانية في نيويورك، وفيها سنغير الطائرة إلى أخرى تعمل على خط نيويورك بيوريا في إلينوي،
كانت ميا معي وقد أرادت التملص من السفر، فلم أعفها من ذلك، وأصررت على أن تغير الأجواء فحين تضع حملها ستكون أماً، وعندها لن تستطيع السفر.
وصلنا إلى دبلن، وهناك ثلاث ساعات توقف، وقد نزلنا إلى المدينة والتقينا بالكثير من الزوار والمهاجرين العرب، من مختلف الأقطار العربية، ولم نجد فيها ما يستحق حمله غير ستة معاطف نسائية من الفرو الطبيعي، فحملناهما معنا، فمن الممكن ألا نَمُرَّبها أثناء العودة إلى مصر.
وفي نيويورك توقفت الطائرة لدقائق ريثما بدلنا الطائرة، وتابعنا بعدها إلى بيوريا حيث كان بانتظاري موفد من الشركة ومعه رجل وسطي العمر.
تم اقتيادنا إلى فندق وسط المدينة، وتركا لنا مفاتيح سيارة ومعها بطاقة تُقَدَّم لشرطة المرور، وقالا اليوم للراحة وغداً للعمل، وأعطياني خريطة للمدينة محدد عليها مقر الشركة.
نقية بيوريا كما اسمها، وشوارعها أنيقة، وهي مدينة صغيرة على العكس من المدن الصناعية الكبرى في الولايات المتحدة، كديترويت وشيكاغو وبوسطن، وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى مقر الشركة، وقد استقبلني على المدخل رجل أنيق، وقادني إلى مكتب عبارة عن غرفة واسعة حسنة الفرش، وبها مكتب عليه هواتف كثيرة، ودخل الرجل الذي شاهدته في مطار بيوريا عند وصولي، وتحدث فقال:
- أنا اسمي جوزف من المخابرات العامة، ولقد التقينا سابقاً في قاعدة ترمذ.
- نعم فقد كنتَ ضابطاً وقد تذكرتك، وأنت من أطلق سراحي وأعطاني مبلغاً، وقلت لي: عد إلى بلدك بوسائطك الخاصة.
- لقد عدتَ إلى سورية فما السبب؟.
- هل أنا الآن أسيراً فتخضعني للاستجواب؟.
- أبداً فنحن نتعارف.
- لقد كانت خطيبتي وهي زوجتي الحالية في دمشق.
- لقد زدتني علماً.
- معي هنا هاتف الثريا وأريد إعادته.
- هو هدية ولن نسترجعه. ولكنك لا تستخدمه.
- سأستخدمه حين أحتاج الحديث به.
- ما سبب عدائك لأمريكا؟.
- لا أحد يعادي أمريكا.
- ولكنكم تعتبروننا مسؤولين عن مشاكلكم.
- ألستم كذلك؟.
- لا ولكننا حريصون على مصالحنا وأهمها النفط.
- وما علاقة مصالحكم بتجزئتنا وتناحرنا.
- تحتاجوننا لحمايتكم فنأخذ ما نريد.
- هذه ميكافيلية بغيضة.
- نحن دولة عظمى ونحتاج إلى تأمين مصالحنا.
- هنا لا يمكن أن نلتقي، فمصالحكم تتناقض مع مصالحنا، على كل حال ماذا تريد مني.
- طلب إلي أن أعتذر منك على المعاناة التي سببناها لك.
- هذه أضرار جانبية، وقد مرت وانتهى مفعولها.
- هل يمكن أن تفسر أي أن معاناتك لدينا التي استمرت شهراً خلاله لم تتأفف ولم تطلب شيئاً، فما سبب ذلك؟.
- هو طبعي منذ طفولتي.
دخل مدير الشركة فسلم بوداد، وقال:
- لقد أردنا التعرف عليك شخصياً، وشركتكم أنشط الشركات التي تعمل معنا، ونتمنى أن نتمكن من تلبية جميع مطالبكم، ورن جرساً فجاء أحدهم بالقهوة وزجاجة ويسكي، فشربت كأساً من الويسكي، ثم تناولت فنجان القهوة وقربته إلي، فوجدت الرجلين يبتسمان، وقال الرجل الآخر مستر بروكلمان:
- لم ننصب لك شركاً إلا وتخلصت منه.
- أنا أتصرف بطبيعتي، ولا أقصد بتصرفاتي غرضاً معينا.
- أهنئك على ذلك وعلى لغتك المتينة وتتحدث باللهجة الأمريكية وكأنك من واشنطن.
- لغتكم عالمية ويجب على كل العرب إتقانها.
- أتغمز إلى شيء؟.
- لا لقد كانت لغتنا شائعة في أوج حضارتنا وكان كل الناس يتحدثون بها، هكذا الأمم تتحرك بين الأوج والحضيض.
- هل لديكما شيئاً آخر ؟.
- نحن أردنا أن نتعرف عليك، وأنا كاتب، فهل تأذن لي بأن ننشر قصتك؟.
- على أن توثقها وتطلعني على فصولها، وتذكر اسمي الصحيح، بدلاَ من اسم مستعار، فتبدأ من حلب وتنتهي في ترمذ.
- موافق.
- أتريد توثيق ذلك؟.
- نعم.
- أليس من محام لدى الشركة؟.
- بل يوجدعددٌ منهم.
- اكتب فأوقع لك. ولكن أخبرني أصلاً كيف تحولت من ضابط إلى كاتب؟.
- لقد كنت احتياطياً فانتهت خدمتي وأنا كاتب بالأصل.
- وكيف تعمل مع السي آيإي؟.
- حينما عدت من أوزبكستان، طلبوا إلى العمل معهم. يا هذا أنت تستجوبني الآن، ولن يرضى العم سام بذلك.
أنهيت عملي في الشركة وقال لي المدير:
- يمكن أن نعتمدكم وكلاء الشرق الأوسط وأفريقيا.
- وماذا يعني ذلك؟.
- البضاعة التي تشتريها أنت تتقاضى عنها 25% أما التي تطلب من الوكلاء الفرعيين فإنك تتقاضى عنها 12,5% ، ويتقاضى الوكلاء الفرعيون 12,5%.
- هذا جيد.
- نحن نريده أن يكون جيداً
دعوت المدير والسيد بروكلمان لزيارة مصر، فأظهرا السرور ووافقا على الزيارة، وقالا:
- يقولون إن الأجواء في مصر تكون منعشة في فصل الخريف، وسنحاول توقيت الزيارة خلاله.
زرت مصانع كاتربيلر في بيوريا، وكانت مصانع جبارة، فيها فرن عال لصهر الحديد، وهم يعالجونه بإضافة الفحم ومواد أخرى بحيث يمكن استعماله بجهد عال تحتاجه الآليات الهندسية في أشغالها في الصخر والتراب، وقد شرح لي المهندس المختص آلية الصنع، حيث يتم الإنتاج بعدد قليل من العمال، وهم وراء لوحات إليكترونية، والعمل الخطر يقوم به الآليون، وهم الذين يتابعون الإنتاج من أوله لآخره، وأفاد المدير بأن المنطقة تحتوي عدة معامل من هذا النوع، حسب تصنيف الآلات، وأن خطوط الإنتاج يمكن تطويرها بين الحين والآخر.
شحنت الشركة ما طلبناه من الآليات وقطع الغيار، وأبحرت الباخرة ونحن في بيوريا، في حين تسوقت ميا الهدايا، وقالت:
- أغلب البضائع في السوق صناعة صينية، وهي أجود بكثير من مثيلاتها في أسواقنا بحيث لا مجال للمقارنة، ولاحظت بأنها بالغت في كمية الهدايا، فسألتها لماذا كل هذا فقالت: كله في مواضعه، وقد أكثرت من القطع الزجاجية للمطبخ والسكاكين، كما تسوقات البهارات الرائعة التي لن ترى مثلها، والفستق الحلبي الكبير الثمرة، وخلاطات جنرال الشهيرة، وأشياء كثيرة أخرى، وابتعت بذلات خروج متنوعة على قياسكما، وقد علمت أن شركة أوروبية تعمل على خط نيويورك الإسكندرية مباشرة، بدون محطات أخرى.
أنهيت التعرف على كل ما أريد أن أعرفه، وقد قال لي المدير السيد هنري كوفمان بأن الشركة قد أعادت التأمين وهو خمسون مليوناً من الدولارات إلى البنك الأمريكي المصري في القاهرة.
حدثني السيد بروكلمان أنه وإدارته باتوا مسرورين من هذه الزيارة، وأنني سأحظى بدعم الإدارة دائماً ولو إلى منصب رئيس الدولة المصرية، وتم منحي الجنسية الأمريكية من النوع الريادي، وهذا يعتبر تأميناً مادياً يؤمنني طيلة الحياة.
شكرت السيد كوفمان، وتمنيت عليه لمصلحة شركتنا أن لا يتدخلوا في حياتي السياسية، وسأكون بعيداً عن هذا الجو الذي أمقته. فقال ضاحكاً:
- تفاجئنا دائماً، ونقدر ذلك ونحترمه.